المفارقة المثيرة عند اللاجئين من سورية أنهم استفادوا من تجارب غيرهم السابقة في مجتمعهم الجديد في الدنمارك، وغيرها شمالا، فانكبوا على تعلم اللغة والاندماج والانخراط بسوق العمل دون تأفف من طبيعته، وهو أمر يلفت انتباه الصحافة وموظفي مراكز التشغيل والبلديات.
وبذات الوقت تجد نوعاً من التضامن فيما بينهم، فهذا الشاب السوري حمصي الأصل، بلال، المولود في مدينة آرهوس، يفتح محله لتصليح الهواتف والحواسيب لتوظيف شابين سوريين.
(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});
وهنالك غيره ممن يقدمون فرص توظيف وتدريب من عرب لديهم مصالح تجارية، وخصوصا في سوق تجاري ضخم “بازار” في ذات المدينة. الأرقام الرسمية تفيد أيضا بأن “اللاجئين من سورية رفعوا في الربع الثاني من العام الجاري النسبة المئوية لعموم اللاجئين في سوق العمل”. “الإحصاء الدنماركي” يبين أنه ” من أصل 6 آلاف لاجئ التحقوا بسوق العمل خلال السنوات الثلاث الماضية ، وصل عدد القادمين من سورية من بين هؤلاء إلى 4 آلاف ملتحق في السوق الدنماركي”. واحتلت نسبة هؤلاء المرتبة الأولى إذ قفزت أعدادهم من حوالى 500 في 2015 إلى 4520 للعام الحالي.
عبد الرحمن يشير إلى “هذه الطريقة”، وهي أصبحت مميزة في شوارع العاصمة الدنماركية، فمن خلال “توكتوك” (مركبة نارية ذات ثلاث عجلات) يكسب الشاب اللاجئ قوته ويبني أحلامه الدراسية لمستقبله. وبينما يرتب الشاب عبد الرحمن طلبات الزبائن راح يتحدث لـ”العربي الجديد” عن رحلته في سوق العمل بعد فترة قصيرة على الإقامة.
كآلاف الشباب السوري “اضطررت لترك مدينة اللاذقية باتجاه تركيا، ولأن أحلامي هي الدراسة في مجال ميكانيك البواخر توقفت لما حل ببلدنا من تدمير وتهجير، وجدت نفسي أسير مع الآخرين في رحلة لجوء طويلة ومؤلمة مع أخي الصغير القاصر”.
كان الأخ الأكبر لعبد الرحمن، عبد اللطيف نسيم (23 سنة)، وصل إلى الدنمارك قبل 3 سنوات، فوجدها فرصة للالتحاق مع أخيه الصغير (15 سنة) للالتحاق به. لم تمر الأمور في الدنمارك بشكل سلس “فقد مر 8 أشهر انتظارا للإقامة. وفصلوا أخانا القاصر عنا، فنحن معتادون أن ننتبه على بعضنا، وبعد جدال كبير جمعوني به في غرفة واحدة”.
إصرار على العمل
دقائق معدودة من الحديث مع عبد الرحمن، حتى يظهر الأخ الأكبر عبد اللطيف ليستلم عنه تلبية طلب الزبائن “خذ راحتك، تحدث مع الجريدة وأنا أنتبه على الشغل”، يقول عبد اللطيف لأخيه عبد الرحمن الذي يسرد “نظرت حولي لأفاجأ بأن البعض، رغم مرور سنوات على إقامته يجلس بدون تقدم، يتلقى المساعدات كل آخر شهر دون أن يحصل شيء على الصعيد الشخصي، أمر لم أرغب به أبدا، بدأت أصر على أن مفتاح الدراسة هو تعلم اللغة، ولتعلمها لابد أن تحتك بالناس، أهل البلد وتندمج معهم..”. يشرح الشاب كيف أنه وافق على الذهاب إلى مدرسة اللغة “والعمل كمتدرب بدون راتب لأشهر، حتى أكتسب معرفة وبالتالي العمل لاحقا. وقد أفادني جدا الاختلاط بالدنماركيين، فلم أعد أخجل أن أتحدث معهم، حتى لو أخطأت فهم يصححون لي ويتناولون قهوتهم مني مع ابتسامة”.
“ العمل هو طريق لابد منه للوصول إلى الهدف، فحتى أعتمد على نفسي، بقيت مصرا على أن تمنحني البلدية مكانا “ |
(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});
يقود عبد الرحمن عربة المشروبات “المجهزة تجهيزا كاملا لصنع القهوة كما في المقاهي، مع عصائر وأشياء بسيطة أخرى، حيث يوجد مكان للوقوف بالتوكتوك في الصباح أو المساء. وأتجه إلى حيث أيضا يوجد احتفالات ومهرجانات دونما مشكلة”.
وبتفاؤل يرى عبد الرحمن بأن “هذا العمل هو طريق لابد منه للوصول إلى الهدف، فحتى أعتمد على نفسي، بقيت مصرا على أن تمنحني البلدية مكانا (براكيتيك) للتدرب، ووجدوا لي مكانا يتعلق بتجهيزات الموسيقى والحفلات. ووجدت مع أخي عبد اللطيف هذه الشركة التي تملك عربات بيع القهوة، ويملكها فلسطيني وعراقي، وقد ساعدانا كثيرا للبدء في حياتنا هنا. وتوظفت لأستجمع قواي وأتعلم اللغة وأعتمد على الدخل من أجل البدء في دراستي لتحصيل شهادتي التي أريد”.
يذكر هذا الشاب بأن “مركز التشغيل كان يقرر خلال أشهر عدد ساعات عملي مقابل مبلغ بسيط، ورفضت المساعدات وقررت بأن العمل هو مفتاح لتطوير الذات واللغة. هدفي أن لا أكون عالة على مجتمع استقبلني، ولأكمل دراستي وأعود إلى بلدي في المستقبل لأساهم في بنائه، كغيري من السوريين الذين وجدوا أنفسهم مشردين”.
من جانبها، تلاحظ البلديات الدنماركية، وفقا لأرقام رسمية مسنودة بدراسات بحثية، بأن اللاجئين السوريين في الدنمارك باتوا يساهمون في زيادة نسبة اللاجئين في أسواق العمل. وبفعل القوانين الجديدة المستحدثة، وبعد مرور بضع سنوات على إقامة هؤلاء السوريين في البلد باتت الاتجاهات أكثر وضوحا لناحية رغبة غالبة لديهم للعمل، أو البدء بمشاريع صغيرة.
الانطلاق بتأسيس مشاريع صغيرة
ومثل عبد الرحمن هناك المئات من الشبان السوريين الذين باتوا يتنافسون في “تأسيس مشاريع يمكن أن تغني الإنسان عن العيش على المساعدات وبناء مستقبل يكون لنا فيه بصمة، والرفع من كفاءة وقدرات قد تفيدنا مستقبلا في بلدنا”، وفقا لما يقوله الثلاثيني عبادة الأحمد، القادم من حلب قبل أقل من 3 سنوات عبر تركيا.
ويضيف الأحمد لـ”العربي الجديد” بأن “رحلة اللجوء لم تكن سهلة أبدا، فعدا عن أنك تحمل أطفالك الصغار برفقة زوجتك بحثا عن أمان، فأنت تجد نفسك في مجتمع غريب لغة وثقافة وأمام تحديات الانطلاق. مر علينا 9 أشهر مقيمين في معسكر لجوء بانتظار الاستقرار. ثم نُقلنا إلى قرية صغيرة وبدأنا تعلم اللغة”. وكحال غيره، مر الأحمد بطريق إيجاد مكان تدريب يتلقى فيه رب العمل مساعدة بلدية لقبول اللاجئ وتجريبه في الأعمال. وبعيدا عن “مجال عملي في الطباعة والتصميم والدعاية وجدت نفسي في شركة لديها سلسلة متاجر، لبضعة أشهر تحسنت لغتي، وبالأصل لدي لغة إنكليزية أيضا، فاخترت قبل أشهر طريقي المستقل”.
“ تأسيس مشاريع يمكن أن تغني الإنسان عن العيش على المساعدات وبناء مستقبل يكون لنا فيه بصمة، والرفع من كفاءة وقدرات قد تفيدنا مستقبلا في بلدنا “ |
(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});
اليوم افتتح عبادة الأحمد شركته الصغيرة للتصميم والدعاية في ستورينغ بوسط غرب الدنمارك: “فكرة فتح المكتب والاستقلال عن المساعدات وجدت طريقها بالاشتراك مع الأقارب، والآن ننطلق بشركتنا KaisCo للدعاية والإعلان وخدمات التصميم واللوحات الإعلانية”. ويضيف الأحمد لـ”العربي الجديد” بأنه “من الجيد للسوريين أن ينطلقوا فعلا بتأسيس حياتهم بشكل مستقل لما يمكن أن يعود عليهم من فائدة خبرة واكتساب لقمة العيش بعرق الجبين، فنحن في سورية كنا معتادين على أن نشتغل لأجل أن نعيش ولا ننتظر مساعدة اجتماعية ومالية من دولة أو منظمة”.
في شركتهم الصغيرة، يحاول الأحمد مع شريك سوري آخر “تقديم كل خدمة ومساعدة للسوريين من أصحاب المشاريع الصغيرة في الدنمارك، وخصوصا أن اللاجئين بدأوا الآن بفتح محلات، ونحن نقدم لهم حسومات كبيرة كنوع من التشجيع والمساندة، ونتمنى بالفعل أن يقتنص اللاجئون ما تقدمه الدنمارك من فرص لحياة كريمة”.
ومن جانبه، وصل وسيم محمد (33 سنة) من مخيم اليرموك بدمشق إلى الدنمارك في أواخر 2014. وكغيره فوجئ محمد بأن “الطريق أمامك أن تجلس وتتلقى مساعدات اجتماعية، وتصبح خاملا وعالة على المجتمع دون أن تدري عنه شيئا. لم يكن قد مضى وقت طويل قبل أن أقبل إرسالي إلى مكان تدريب في روضة أطفال، قبلتها لأنها أيضا جزء من تعلم الدنماركية من جهة، والتعرف على المجتمع. 6 أشهر وأنا أداوم في الروضة كمساعد تربوي”.
ويضيف محمد وسيم “من الطبيعي جدا أن نعمل، فنحن أتينا أصلا من مجتمع تصرف فيه من عرق جبينك، وبالتالي أحث كل لاجئ ومهاجر أن يرفض مثلي وغيري العيش على المساعدات والبقاء على هامش المجتمعات. لقد بقيت أطلب اجتماعات مع مشرفي في البلدية أحثه على إيجاد عمل لي، وكنت أرسل سي في (سيرة ذاتية) لشركات عدة، بعضها رفض وبعضها وضعني على لائحة الانتظار، إلى أن حصلت على مكان تدريب علة عمل في معمل شوكلاته “اينرجي بار” لثلاثة أشهر.
ومنذ شهر يوليو/تموز 2016 أصبحت موظفا ثابتا 37 ساعة أسبوعيا بعقد مفتوح بمساواة مع غيري، رغم أن لغتي بعد أقل من سنتين إقامة أصبحت بمستوى عال، فالإنكيزية ساعدت أيضا. أغلب الموظفين دنماركيون وتشعر باحترامهم لأنك تعمل ولا تعتاش على ضريبتهم”. ويرى محمد بأنه “من السهل جدا لمن يريد العمل أن يبقى مصرا مع البلديات ومكاتب التوظيف حتى يجد ما يناسبه ويعيش من راتبه وليس من المساعدات”.
“ من الطبيعي جدا أن نعمل، فنحن أتينا أصلا من مجتمع تصرف فيه من عرق جبينك، وبالتالي أحث كل لاجئ ومهاجر أن يرفض مثلي وغيري العيش على المساعدات والبقاء على هامش المجتمعات “ |
يتفق الشاب العشريني، نمر السلوم، من خان الشيح بريف دمشق، مع وسيم “فالفرص في الدنمارك موجودة حين يبحث عنها اللاجئ، بعيدا عن الاعتماد على المساعدات، أو طرح أشياء غير واقعية، كطلب عمل في مجال يتطلب تخرجا أكاديميا بينما الشخص لا يكون قد أنهى دراسته قبل أن يحضر إلى البلد”. ويجد نمر أن “القبول بالمعروض في البلديات، كأماكن تدريب، ليست تضييعا للوقت كما يظن البعض، بل هي وسيلة تعلم لنظام الشغل والمجتمع، حيث يوجد لاجئون من سورية، وهو مفيد للسيرة الذاتية ولكي يفتح طريقا أمامنا”.
اليوم، وبعد عامين، يعمل وسيم موظفا في شركة توصيلات “فأنا أدخل بيوت الدنماركيين، وخصوصا كبار السن وأستفيد من المحادثة معهم لغويا وثقافيا للتعرف على طبيعة المجتمع”. وينتظر وسيم خلال الفترة القادمة “البدء بشركتي الخاصة للتوصيلات، من خلال مشروع مقدم للبلدية والحصول على قرض بـ50 ألف كرون لاستئجار سيارات توصيل لفتح الشركة وتسجيلها… ووجدت تشجيعا رسمياً لمشروعي”.
http://www.arbdk.info
(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});